الرئيس كايتا…نهايةُ نظامٍ أمْ ضَرْبةُ استيعاب !
عبد الله بوزاري اعلامي و كاتب صحفي
ظهَرَ جليّا أن القِدْرَ وصل إلى الغليان في مالي ، في اللّحظة الّتي بدأت فيها الإشتباكات المسلّحة المتقطّعة قبل نحو أسبوع ، منهيةَ بذلك أسابيع من الإحتجاحات الشعبيّة المطالبة بإسقاط حكم الرئيس كايتا الموالي لفرنسا منذ شهر يونيو الماضي .
قرابةُ ثلاثة أشهر من الحراك الشعبي الكبير أسبوعيا انتهى باعتقال الرئيس كايتا ، و عدد من رموز عُصبته في الحكومة و البرلمان ، بتوقيع ضباط ثُكنة كاتي الواقعة على أطراف العاصمة باماكو في انقلاب عسكري “ناعم” .
يُحيل هذا الإنقلاب العسكري “الناعم” على الرئيس إبراهيم أبو بكر كايتا ، يُحيلُ إلى مصير سَلَفِهِ الرئيس حامادو توماني توري خريّجِ ثُكنة كاتي نفسها ، و الذي نفّذ انقلابا عسكريّا على حكم الرئيس موسى تراوري عام 1991 و شكّل حينذاك “هيئة إنقاذ الشّعب” التي حضّرت لانتخابات رئاسية بعد عام من ذلك أفرزت ألفا عمر كوناري رئيسا ، ليعود حمادو الى الحكم رئيسا عام 2002 مستمرّا حتى عام 2012 حين انقلب عليه ضبّاط ثكنة كاتي ، في عزّ اشتداد التدهور الأمني في الإقليم الشمالي جراء عودة قوافل المقاتلين من ليبيا المنهارة .
اللاّفت في الموضوع هو التّشابه الكبير بين انقلاب حمادو عام 1991 و انقلاب “ضبّاط كاتي” بقيادة غويتا على الرئيس كايتا ، على الاقلّ في الطريقة و البناء “الجاهز ” للسّلطة العسكرية الحاكمة بعد تعطيل العمل بالدّستور (هيئة انقاذ الشّعب) .
لكنّ اللاّفت أكثر هو الموقف الفرنسيّ الذي بدا في الساعات الأولى مرتبكا (على الأقلّ ظاهريّا) من خلال البيانات و التحذيرات الّتي كانت تصدرها دوريّا ، سِفارة باريس في باماكو على مدار يوم الثلاثاء العاصف .
فرنسا التي تمتلك نفوذا قويّا و واسعا في مالي و بقيّة مستعمراتها السابقة في منطقة الساحل ، عبر حضورها العسكريّ المباشر و الإقتصادي و الثقافي و الأمني ، بدت غير مستوعبة لما جرى أو أنّ الأحداث تجاوزتها ، ذلك أنّ فرنسا التي انقضّت قواتُها الخاصة على الرئيس الإيفواري لوران غباغبو عام 2011 و قامت بإخراجه من مخدعه بالملابس الداخليّة ، بدت هذه المرّة تائهة و صبّت جامَ “جُهدِها” بالمواقف الدبلوماسيّة التي كانت ترِدُ تباعا من الإيليزيه و الكيدورسيه رافضةً للإنقلاب العسكري ، و مستخدمةً عبارتها المفضّلة “فورًا” حين طالبت أيضا بإطلاق سراح الرئيس كايتا و رفاق حكمه ، و انتقلت الآلة الدبلوماسيّة الفرنسيّة إلى السرعة القصوى حين طلبت اجتماعا عاجلا لمجلس الامن الدّولي لدراسة الوضع في مالي .
بالنّسبة للدول الجارة فقد جاء موقف الجزائر معارضا للخروج عن الدّستور و هي (أي الجزائر) الّتي ذُكِر اسمها في بيان الإنقلاب حين تعهّد “ضبّاط كاتي” باحترام اتفاق المصالحة الوطنية الذي رعته الجزائر، و الذي أبعد شبح الحرب الأهلية و تقسيم مالي جغرافيا و إثنيًّا ، في حين عارضت واشنطن بقوةٍ عزل الرئيس كايتا ، بينما لم تبرز مواقف قوى عظمى كالصين و روسيا ، أو حتّى قوة شرق أوسطية كتركيا التي تسارع من أجل موطئ قدم لها في الساحل الإفريقي بعد توقيعها اتفاقية دفاع مشترك مع النيّجر جارة ليبيا حيث مناجمُ اليورانيوم الذي تستغله الشركات الفرنسيّة .
من الصّعب التكهّن بخلفيات هذه العمليّة “الجراحيّة” العسكريّة” ، بسبب الغموض الذي يكتنف قادتها ، و نقص المعطيات المتوفرّة من هناك ، إلّا أنّ نظرة على مسار الشارع الذي كان ملتهبا و متوحّدا ضدّ نظام الرئيس كايتا قد تفيد في استطلاع بقعة ضوء .
يتكوّن الشارع المحتجّ في مالي منذ شهر يونيو من هذا العام من فسيفساء سياسية و حقوقية و دينية غريبة في توافقها و توحّدها ، حيث ظهرت أولى الانفجارات الشعبية العام الماضي رافعة شعارات مناهضة لفرنسا و مطالبة بتحقيق استقلال كامل عنها و طرد قواتها و طابورها الخامس من البلاد .
توقّفت الإحتجاجات لفترة ثم عادت صيف هذا العام بقوة مطالبة برأس كايتا الذي يَعُدُّ عامَه الثالث من عهدته الرئاسية الثانية ، إِذْ كانت أيّام الجمعة وبالاً عليه حين يخرج عشرات الآلاف منتشينَ بخطب الشيخ ديكو محمود ، خطيبِ أكبر مساجد باماكو، و مُأطّرينَ بشباب حركة الخامس من يونيو .
إلى غاية يوم الثلاثاء العاصف ، لم يتمكّن المحتجون في الشوارع من تحقيق مطالبهم الرئيسية ، عدا إقحام وجه شبابي لرئاسة الحكومة و هو بوبو سيسي خريج الجامعة الفرنسية ، مع محاولات فاشلة لاحتواءه من قبل الرئيس كايتا الذي حاول “عبثا” استمالة رجلِ الدّين محمود ديكو حين التقاه.
واضحٌ جدّا أن “ضبّاط كاتي” تلقّوا ضمانات من قبل قوى نافذة و فاعلة للقيام بهاته الحركة ، ذلك أنّ غياب هذا المعطى (و هو معروف في الإنقلابات) يعني مصيرا أسود لهم و للبلاد ، فالحركة العسكريّة التي قاموا بها لم تعرف مواجهات دامية و لا انفلاتا في الشّارع ، و لا ارتباكا أو تخبّطا ، و هو ما يعني أنّها لم تكُ عفويّة بل كانت بتخطيط عالِ الدقّة ،و بشكل مسبَق ، فهل سينقذ “ضبّاط كاتي” شعبَ مالي على طريقة حمادو توماني توري ، أم أنّ عهدا جديدا ينتظر المالييّن ؟
ملاحظة: هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن الجيريان إكسبرس